من المعروف أن المورثات تلعب دوراً هاماً في تحديد العديد من الصفات التي نرثها، بدءًا من لون العينين إلى نوع الشعر ولونه. لكن، هل فكرت يومًا في مدى تأثير المورثات على صحة الكلى؟ في هذه المدونة، سنستكشف معاً عمق الوراثة وكيف يمكن للمتحورات الوراثية أن تؤثر على الكلى ووظائفها. هنا سأتحدث عن الوراثة وصحة الكلى

كما جرت العادة، كل المراجع والمصادر في هذه المدونات ستضاف كروابط ضمن نص المدونة

 

 

مبادئ الوراثة

الوراثة هي العملية التي يتم من خلالها نقل الصفات الموروثة من الأبوين إلى الأبناء. تتم هذه العملية من خلال صبغيات تحتوي على المورثات. حيث يرث كلٌ منا ٢٣ صبغياً من كل والد. المورثات الموجودة في هذه الصبغيات، بدورها، تتألف من الحمض النووي الريبي منقوص الأكسجين (دنا)، وهو سلسلة طويلة تحتوي على أربعة حموض نووية: الأدينين ، الثيمين ، السيتوزين ، والغوانين . هذه الحموض النووية تترتب بعدة أشكال فتشكل ما يشبه الشيفرة. تقرأ هذه الشيفرة في ترتيب معين لتكوين البروتينات المختلفة، وهي العناصر الأساسية للوظائف البيولوجية في الجسم. فبإمكانك أن تتخيل أن خلايا الجسم هي مصنع لتكوين البروتينات المختلفة والمورثات هي القالب الذي تستخدمه الخلايا لذلك

المتحورات الوراثية

أي تغيير في الشيفرة الوراثة سيغير من تركيب البروتين المصنوع وقد يؤدي إلى حذفه بالكامل. وهذا ما يؤدي إلى ظهور السمات الشخصية لكلٍ منا. هناك عدة أنواع من المتحورات الوراثية. فهناك متحورات تؤدي إلى إضافة أو حذف حمض نووي معين. وهناك أخرى قد تكون بسيطة، مثل تغيير في حمض نووي واحد و هو ما يسمى بتغيير الشكل بحمض نووي واحد. كما أن هناك متحورات أكثر تعقيداً تؤدي إلى إعادة ترتيب المورثات أو حتى الكروموزومات. تغيير الشكل بحمض نووي واحد هو نوع من المتحورات الوراثية البسيطة يحدث عندما يتم استبدال حمض نووي واحد في تسلسل ال(دنا). يمكن لهذا التغيير أن يغير في وظيفة البروتين الذي ينتج من المورثة ومما يؤدي إلى تغيير في الصفات البيولوجية

الأمراض الكلوية الوراثية

هناك العديد من الأمراض الكلوية التي يمكن أن تُورث، بما في ذلك مرض الكلية المتعددة الكيسات ومتلازمة ألبورت. مرض الكلى المتعدد الكيسات، مثلاً، يحدث عندما يكون هناك تحور في إحدى المورثتين (ب ك د ١) أو (ب ك د ٢) ، مما يؤدي إلى تكوين كيسات في الكلى تضغط على النسيج الكلوي الطبيعي و تؤدي للقصور الكلوي مع مرور الوقت. أما متلازمة ألبورت فهي حالة تنتج عن تحور في المورثات التي تكون الكولاجين من النوع الرابع، وهذا البروتين هو جزء أساسي في بناء جدران الكبب الكلوية وهي مركز تنقية الدم في الكلى. في كلا الحالتين، تؤدي المتحورات الوراثية إلى تطور القصور الكلوي بمرور الوقت



الوراثة وسرعة تطور القصور الكلوي

بالإضافة إلى الأمراض الكلوية الوراثية، تؤثر الوراثة على سرعة تطور القصور الكلوي. فقد أظهرت دراسة حديثة أن هناك عدة مواقع في مورثاتنا ترتبط مع نقص معدل الرشح الكبيبي مع الوقت

جرى هذا البحث على أكثر من مئة ألف شخص يعانون من القصور الكلوي المزمن وأظهرت أن مورثتي ال (يو مود) (أبول ١) ترتبطان بسرعة تطور القصور الكلوي. بالإضافة إلى ذلك أظهر المقال وجود مواقع وراثية أخرى بالقرب من مورثات معينة ترتبط بسرعة تطور القصور الكلوي. بإمكانكم قراءة هذه الدراسة هنا. هذه النتائج تؤكد على العلاقة القوية بين الوراثة وتقدم مرض الكلى المزمن

انضموا إلى مجموعة طب الكلى المتكامل على الفيسبوك

 

علاقة الوراثة باستقلاب الأغذية

‏تلعب الوراثة دورا مهما في نوع الطعام الذي يتناوله الشخص. فقد أثبتت الدراسات أن حاسة الذوق عند كل شخص تتعلق بوجود متحورات وراثية معينة.  فالأشخاص الذين لديهم فرط في تذوق الطعم المر بسبب وجود متحور وراثي معين يتناولون ٢٠٠ حصة غذائية أقل من الخضروات سنوياً بالمقارنة مع الأشخاص الذين ليس لديهم هذا المتحور

‏إضافةً إلى ذلك، فإن هضم العديد من الأطعمة يحتاج إلى إنزيمات في الجهاز الهضمي وهذه الانزيمات هي بطبيعتها بروتينات، وأي خلل وراثي في هذه البروتينات يؤدي إلى خلل في العملية الهضمية للنشويات والدسم والبروتينات

 

digestive enzymes and genetics

 

بالمقابل استقلاب العديد مما نتاوله يعتمد على مورثاتنا بما في ذلك القهوة والمغذيات المختلفة. فعلى سبيل المثال أثبتت دراسة أن استقلاب الكافيين يختلف من شخص لآخر وهذا ما يسبب اختلاف نتائج الأبحاث حول دور القهوة في تطور المرض الكلوي فهناك أشخاص يستقلبون الكافيين بشكل سريع وأشخاص يستقلبونها بشكل بطيء. إذا شرب الأشخاص بطيئي استقلاب الكافيين أكثر من ثلاثة أكواب من القهوة يومياً يحدث لديهم زيادة تقارب الثلاثة أضعاف في البروتين في البول وسرعة تطور القصور الكلوي المزمن وارتفاع الضغط الدم



علاقة الوراثة باستقلاب أدوية الكلى

الوراثة تلعب أيضًا دورًا في كيفية استجابة الجسم للأدوية. فالمورثات تحدد كيف يمتص الجسم الأدوية، كيف يستقلبها، وكيف يتخلص منها. الاختلافات الوراثية يمكن أن تؤثر على كيفية استجابة الشخص لدواء معين، مثل الأدوية المستخدمة لعلاج أمراض الكلى. أدوية الضغط كاللوسارتان وأدوية زرع الكلى كالتاكروليموس يتأثر استقلابها بوجود بعض المتحورات الوراثية مثلاً.  يسمى هذا المجال بـ “الطب الشخصي” أو “الطب الدقيق”، وهو مجال متقدم يهدف إلى توفير العلاج المثالي بناءً على الخاصيات الوراثية للمريض



ما فوق الوراثة

ما فوق الوراثة هو مجال البحث الذي يستكشف التغييرات في تعبير المورثات عن نفسها. فوجود مورثة معينة أو متحور وراثي لا يعني بالضرورة أن تكوّن وتنتج بروتينات. هناك تغيرات كيميائية في ال(دنا) تجعل من بعض المورثات فعالة في حين تجعل أخرى غير فعالة. كل ذلك يعتمد على البيئة التي تعيش فيها الخلايا والرسائل التي تنقل عبر رسل كيميائية من غشائها إلى نواتها. وهذا ما يجعل لنمط الحياة الذي يعيشه كلٌ منا وما نتعرض له من سموم وأدوية ومكملات وما إلى ذلك دوراً مهماً في تعبير المورثات عن نفسها. وهذا أساس التفكير في نهج طب الكلى المتكامل حيث يُقال: إن مورثاتنا لا تملي قدرنا

الخلاصة

فهم الوراثة وكيف يمكن أن تؤثر على صحة الكلى هو مجال بحث مهم ويتطور بسرعة. مع التقدم العلمي والتكنولوجي، أصبحنا نفهم بشكل أفضل كيف تتأثر صحتنا بالوراثة، وكيف يمكننا استخدام هذه المعرفة لتحسين الرعاية الصحية. بفضل الابحاث الحديثة، أصبح بإمكاننا الآن أن نكتشف المتحورات الوراثية التي قد تؤدي إلى أمراض الكلى، وأن نطور استراتيجيات للتعامل مع هذه المشكلات. فبينما لا يمكننا تغيير المورثات التي نُولد بها، يمكننا استخدام هذه المعرفة للسيطرة على المخاطر الصحية التي قد نواجها وتعديل نمط حياتنا بشكل صحي يؤثر إيجابياً على مورثاتنا